مراحل التحول في النسيج الحضاري وزمن تفاعلها
عندما يحتدم الصراع بين الحق والباطل يخنس الباطل، ويفر موليا دبره، ولما يشتد عود الباطل يستأسد ويجول دون رقيب أو رادع. وهنا يبزغ سؤال يخرق السكون : كيف يتم تحول الشيء من الأصل إلى النقيض ثم من النقيض إلى الأصل الأول ؟
]وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[آل عمران : 140.
ينشأ الفساد في بوتقته متسترا متخفيا عن الأنظار، لكنه يسري كما تسري النار في التبن، عاملة هادئة في سكون لا دخان ولا أثر، حتى إذا ما اكتسحت الجوانب ؛ طلت برأسها معلنة استيلاءها على ما تحتها : إنها مرحلة النشوء.
وفي مرحلة الاستواء يستوي الفساد علانية، وينتشر على مرأى ومسمع من الخاص والعام، والناس بين خائف وخائن ؛ خائف من جولة الباطل، وخائن لمهمة تغيير المنكر الواجبة على كل مسلم ومسلمة.
ولما يشتد عود المؤمنين الذين لا يخشون في الله لومة لائم، يجابهون الفساد فيندحر وينكب على وجهه، فتكون مرحلة اندحاره وخنوعه.
هي خلاصة المطاف, ثلاث مراحل : أولا- مرحلة النشوء والارتقاء، ثانيا- مرحلة الاستواء والاستقرار، ثم مرحلة الفشل والاندحار وهي المرحلة الثالثة.
مراحل التحول لم تأت ضربة لازب، بل سلكت سنن التاريخ، ونشوء الحضارات ونشأة الإنسان، إنها ثلاث مراحل :
أ-مرحلة النشوء :
لاشك أن الإنسان والمجتمعات قائمة على أصل الإصلاح، والإفساد عنصر طارئ، لكن استمرارية الحياة متوقفة عليه في دنيا البلاء بالخير والشر فتنة :
]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا[ الأنعام : 123.
]قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون[ البقرة : 38-39.
]هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً[ فاطر 39.
ب- مرحلة الاستواء والاستقرار :
هي المرحلة الوسطى، حين تكتمل القوى وتشتد، ويكون لها صوت مميز, وصيت ذائع.
والناس منهم الصالح والطالح ؛ فكل من اتبع سنة النشوء والارتقاء وصل مرحلة الاستقرار، سواء من المفسدين كان أو من المتقين ؟
]إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين[َالقصص : 4.
]أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ[ الشعراء : 128-135.
ج- مرحلة الفشل والاندحار :
جعل الله الناس خلائف في الأرض، وجعلهم طائفتين : حزب الله وحزب الشيطان، وجعل الأيام بينهما دولا، والتاريخ سجالا، وهذا نموذج لهلاك القوم المفسدين يقصه علينا كتاب الله :
]قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
- قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
- وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون.َ
- وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا، وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ, وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ.
- فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ[.- الأعراف : 128-137
د - وخلاصة القول :
أن المراحل الثلاث تسري في تعاقب وفق سنن معينة محددة، لا مجال للإفلات من قبضتها، وما على الإنسان إلا استخلاص كل تلك السنن ؛ ليسير على رشدها إن رام الصواب والرشاد.
]أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[الأعراف : 54.
عامل الزمن وأثره على مراحل التحول
إنها سنن الله ماضية في سيرها لا تقتصر على دراسة الحضارات ونشوئها ؛ إنما تتعداها لتشمل تطور الإنسان ومراحل حياته.
20سنة =مرحلة البلوغ بلوغ الأربعين
لقد عرض القرآن في مختلف نصوصه إلى أهمية الوقت بمختلف مقاييسه :
سواء منها الساعة, أو اليوم, أو الليلة, أو الشهر, أو الثلاثة شهور, أو أربعة أشهر, أو السنة, أو البضع سنين, أو الحقب من الزمان, أو القرون, إلى غير ذلك من العبارات الزمنية.
و الذي يهمنا الوقوف معه هي حقبة " بضع سنين " لما خصها القرآن الكريم به من عناية ربط بها الأحداث.
بضع سنين وعلاقتها بالسنن الإلهية
للسنن الإلهية علاقة وطيدة " ببضع سنين ".
أولا : بضع سنين وعلاقتها بالسنن الكونية :
نقتصر على القصص القرآني حتى نزداد يقينا ؛ لكونه أصدق قيلا.
1- في حق سيدنا يوسف عليه السلام :
]وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين[يوسف : 22.
وبعد قضاء (بضع سنين) سجنا قال للملك :
]قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[يوسف : 55.
وبذلك تأهل للنبوة وحمل عبء الرسالة عند الأربعين.
2- أما في حق موسى عليه السلام فقد قال تعالى :
]وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[القصص 14
لكنه لم يبلغ الأربعين، فكانت فترة خروجه إلى مدين والتي بلغت عشر حجج في خدمة صهره إلى أن ناداه منادي النبوة.
ويضحى مقياس " بضع سنين " جليا ذا ارتباط وثيق بفترات التغيير من مرحلة إلى أخرى.
ثانيا : دلالات "بضع سنين" في الآيات القرآنية
أدركنا الترابط الزمني وعلاقته بالسنن الإلهية، لكن " لبضع سنين " خاصية مع السنن الإلهية، فكيف تسفر من بين ثنايا الآيات ؟ وما هي الدلالات التي تنطوي عليها ؟
نصت عدة آيات على بضع سنين، منها ما جاء بصريح العبارة، ومنها ما تستشف هذه الحقبة الزمنية من مدلول النص :
1- عبارة ( بضع سنين ) جاءت في قوله عز وجل :
]فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[يوسف : 42.
] غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ[الروم : 2-4.
2- ذكرت عبارة " بضع سنين " صريحة واضحة :
]قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ[يوسف : 47.
]ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُن[ يوسف : 48.
جاء مفاد بضع سنين هنا معبرا عنها بسبع سنين.
3- إشارات لبضع سنين
جاءت في القرآن الكريم عدة عبارات تحمل إشارات لبضع سنين منها :
أ-عبارة قليل :
جاءت عبارة القليل في قوله عز وجل :
]وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً[لإسراء : 76.
من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة سنة (
ثمان للهجرة، وهو ما يفسر لفظ قليل بأنه لا يعدو بضع سنين بالاستدلال التاريخي للحادثة.
وفي قوله عز وجل :
]لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً[ الأحزاب : 60.
ومعلوم أن جلاءهم عن المدينة كان عام خيبر، وكانت في السنة التاسعة للهجرة.
ومن هذا القبيل في القليل جاءت الآيات الكريمات التالية :
]قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ[ الزمر : 8.
]كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ[المرسلات 46.
ب-لفظ حين :
قال سبحانه وتعالى : {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} يوسف : 35.
فعبرت لفظة حين عن بضع سنين لقوله تعالى :
]فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[ يوسف : 42.
ودلت هذه العبارة على فترات زمنية متفاوتة من أقل مدة زمنية إلى يوم القيامة، وتعلقت في بعض الآيات " ببضع السنين " منها :
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} سورة ص : 88
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات : 43.
ج - لفظ الأجل :
قال عز من قائل :
]فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا[القصص 29
معلوم أنه استأجره صهره لعشر سنين أو ثمان، وهي بضع سنين. وفي هذا المعنى جاء قوله عز وجل :
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَاب}[العنكبوت : 53].
د- لفظ الساعة :
]لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ[ التوبة : 117.
ومعلوم أن ساعة العسرة لم ترتفع عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلا بعد فتح مكة وغزوة خيبر، وكانت المدة تراوح التسع سنوات، وهي بضع سنين.
هـ- لفظ أمة:
في قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف45]
قال الراغب الأصفهاني : بعد أمة بعد حين. (معجم مفردات ألفاظ القرآن, ص : 30.)ومعلوم أن سيدنا يوسف قضى بعد خروج السجن بضع سنوات بدليل :
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [. يوسف : 42.
-خلاصة
ليس المهم هو تقعر البحث حول كل مدلولات " بضع سنين ", إنما تكفي الإثارة والإشارة ؛ لكون هذه الحقبة لم تذكر عبثا، ولم تثر سدى، بل لها ارتباط وثيق بالسنن الإلهية وتفاعلها، وبخاصة حينما يتعدد ذكرها وإثارتها ؛ لتتخذ ضابطا زمنيا من ضوابط السنن الإلهية.
إن من أمهل بضع سنين ليراجع حساباته قبل أن تحق عليه كلمة العذاب, ويحيق به الخسران من كل جانب، فقد أمهل كثيرا ؛ ومن هنا قيل : إن الله يمهل ولا يهمل.