يقص علينا القرآن الكريم موقفاً عجيباً تكرر بين عدد من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام والمكذبين من أقوامهم، حيث كان هؤلاء بعد أن تعييهم الحيلة في أن يردوا الأنبياء عن دعوة الحق، وبعد أن يظهر في مقام المجادلة ضعف حججهم وفساد عقيدتهم أمام الحجج الباهرة والأدلة القاطعة على صدق الأنبياء وصحة ما جاؤوا به من لدن ربهم، كانوا يلجؤون إلى السخرية والاستهزاء، وإمعاناً في التكذيب يستعجلون أنبياءهم بالعذاب الذي توعدوهم به.
قال تعالى مخبراً عن المكذبين من عاد قوم هود: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأعراف70].
وقال مخبراً عن المكذبين من ثمود قوم صالح: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف/77].
وقال تعالى مخبراً عن المكذبين من قوم نوح: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود/32].
وقال مخبراً عن المكذبين من قوم لوط: ﴿قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت/29].
وحكى عن المكذبين من قوم شعيب قولهم:﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾[الشعراء/187].
أما نبينا صلوات الله وسلامه عليه فقد ووجه بأعجب هذه المواقف حيث قال قومه: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال/32]، ولا شك أن هذا من ضعف عقولهم وخفة رأيهم وسفاهة أحلامهم، إذ كان الأحرى بهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لا أن يصروا على مخالفته ثم يسألوا الله أن يعذبهم بذلك!
لكنهم قد عتوا عتواً كبيراً وأضلهم الله لما طغوا وآثروا الحياة الدنيا، فأصمهم عن الحق، وأعمى أبصارهم عن الهدى.
إن المرء ليعجب من هذا الخَلْق الضعيف الذي أخرجه الله إلى الدنيا بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، ثم غذاه ورباه بالنعم إلى أن بلغ أشده، ثم هو في كل حركة وسكنة إنما هو وكل هذا الكون في قبضة الله غير خارج عن سلطانه، ثم هو يمشي على أرضه ويستظل سماءه ويشرب من مائه ويأكل من رزقه، ثم يحسب أنه سيعجز الله هرباً!
لقد طال العذاب كل من استعجله من أقوام المرسلين، وكان لكل منهم عذاب يخصه غير العذاب الذي سيعمهم جميعاً في نار جهنم يوم القيامة، فمنهم من أخذته الصيحة ومنهم من أخذته الرجفة ومنهم من أغرقه الله ومنهم من غيبه في بطن الأرض بعد أن جعل عاليها سافلها، فنال العذاب كل المكذبين الذين استعجلوا به، إلا قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن العذاب لم يعم كل من كذبه من قومه تكرمة له ولأن أمته هي آخر الأمم، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال/33]، فلم يستأصل الله سبحانه وتعالى شأفتهم بل أمهلهم دون أن يهملهم، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [العنكبوت/53]، فأمهل من حق عليه العذاب منهم إلى حين؛ فقتل بعضهم في بدر، وقتل بعضهم في غيرها، ومات بعضهم من غير قتال، ثم يوم القيامة موعدهم وكل المكذبين من الأولين والآخرين حيث العذاب العام في نار جهنم.
ولهذا الإمهال من الله سبحانه وتعالى حِكَم عظيمة فأكثر من كَذَّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من قومه أسلموا -قبل الفتح أو بعده- وقليل منهم من مات على الكفر، وكثير من هؤلاء الذين أسلموا حسن إسلامهم وأبلوا في الإسلام بلاء حسناً فكانوا جنوده الأوفياء وسفراءه الأتقياء، وحتى الذين ماتوا على الكفر منهم فقد أخرج الله من أصلابهم من يوحده سبحانه استجابة لرجاء حبيبه عليه السلام يوم استأذنه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) فهو عليه السلام رحمة للعالمين، حتى لهؤلاء المكذبين المستهزئين إذ لكرامته عند الله لم تحل بهم عقوبة عامة كسائر الأمم.
وفي هذا درس عظيم لنا؛ فإن كان الملك جل وعلا يصبر على من كفر به وكذب رسله، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر على استهزاء المستهزئين، فحري بنا أن نصبر على من يكذبنا ويستهزئ بنا ونحن ندعوه إلى الله عز وجل، ولا يكون جل همنا أن ندعو عليه بالثبور وعظائم الأمور، وبخاصة إن كان هذا على سبيل الانتصار للنفس لا الانتصار للدين وأهله.
ونحن اليوم إذ نرى تكذيب المكذبين، واستهزاء المستهزئين، وتطاولهم على المسلمين وتسلطهم عليهم، نعلم علم اليقين أن ما هم فيه من تماد في العلو والاستكبار إنما هو من إملاء الله وإمهاله لهم، وأنهم كلما ازدادوا في غيهم كانوا كمن يستعجل العذاب بلسان الحال، وإن لم يستعجلوه بلسان المقال.
وكل من يسير في هذه الأرض مصراً على معصية الله والبعد عن طريقه وهو يسمع وعيد الله لمن عصاه فيه شيء من الشبه بهؤلاء، فواجبنا أن نقول لهم كما قال صالح عليه السلام لقومه: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾